كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة. قال جار الله: مفعولا الحسبان الترك وعلته والتقديرك أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال: والترك بمعنى التصيير. فقوله: {وهم لا يفتنون} حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه. وقال آخرون: تقديره أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن {قالوا آمنا} وأقول: إن من خواص {أن} مع الفعل و{أن} مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب، والحكم بأن الترك هاهنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرناه من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر {أم حسبتم أن تتركوا} [التوبة: 16] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس. والتحقي أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله. فإذا قال باللسان: آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلابد له من شهود وهو الإتيان بالأركان، وإذا حصل الشهود فلا بدلا له من مزك وهو بذل النفس والمال في سبيل الرحمن. فمعنى الآية: أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلًا {ولقد فتنا الذين من قبلهم} أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم {آمنا} بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات. وقوله: {فليعلمن الله} كقوله: {وليعلم الله} [الآية: 140] وقد مر تحقيقه في آل عمران. والحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل: فيرين الله وليظهرن الله.
وقيل: فليميزن، وجوز جار الله أن يكون وعدًا ووعيدًا كأنه قال: وليبينن الذي صدقوا وليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي: في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه، فقال في حق الأوّلين {الذين صدقوا} بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد، وقال في حق الآخرين {وليعلمن الكاذبين} بالصيغة المنبئة عن الثبات. وإنما قال: {يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإِسلام. ثم بين بقوله: {أم حسب الذين} الخ. أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا}.
[الأنفال: 59] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لولا الاستعجال.
ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله: {ساء ما يحكمون} والمخصوص محذوف و{ما} موصولة أو مبهمة والتقدير: بئس الذي يحكمون حكمهم هذا، وبئس حكمًا يحكمونه حكمهم هذا. وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف إرشادات وإلا يعاد عليها ترغيب وترهيب ولا يوجب من الله تعذيب. واعلم أن أصول الدين ثلاثة: معرفة المبدأ وأشار إليه بقوله: {آمنا} ومعرفة الوسط وهو إرسال الرسل. وإيضاح السبل وإليه أشار بقوله: {وهم لا يفتنون ولقد فتنا} ومعرفة المعاد إما للأشقياء وهو قوله: {الم أحسب} الآية وإما للسعداء وهو قوله: {من كان يرجو} أي يأمل {لقاء} جزاء {الله فإن أجل الله لآت} فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن، فلولا البقاء لما حصل اللقاء كقولك: من كان يرجو الخير فإن السلطات واصل. فإِنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله. ومثله: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب. إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. ويحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر. وقيل: يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي:
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها. {وهو السميع} لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا {العليم} بنياتهم وطوياتهم وبسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت، وبالمرئي مالا عين رأت وبالنيات مالا خطر على قلب بشر.
ثم بين بقوله: {ومن جاهد} الآية. أن فائدة التكاليف والمجاهدات إنما ترجع إلى المكلف والله غني عن كل ذلك. قال المتكلمون من الأشاعرة: في الآية دلالة على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله وإلا كان مستكملًا بذلك، وأن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني، وأنه ليس في مكان وإلا لزم افتقاره، وأنه ليس قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم لأن القدرة والعلم غيره فيلزم افتقاره. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال. وعن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد. وعن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه. وعن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات الله مع صفاته. وفي الآية بشارة من وجه وإنذار من وجه آخر، وذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح ولا شيء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات} الآية وقد مر مرارًا أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلًا فيما علم وإجمالًا فيما لم يعلم، والعمل الصالح هو الذي ندب الله ورسوله إليه، والفاسد ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه.
وعند المعتزلة الأمر والنهي مترتب على الحسن والقبح. ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف. يقال: فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع. ولكن العمل عرض لا يبقى بنفسه ولا بالعامل لأن كل شيء هالك إلا وجهه، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه الله. ومنه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة وهي كونها لله تعالى. وخالف زفر في نية الصوم وأبو حنيفة في نية الوضوء، وقد مر. ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان والعمل الصالح أمرين: تكفير السيئات والجزاء بالأحسن. فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، ومنه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها. وهاهنا بحث وهو أن قوله: {لنكفرن} يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، فالمراد بالذين آمنوا وعملوا إما قوم مسلمون مذنبون، وإما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله. أو يقال إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء، نظيره قول الملك لقوم: إذا أطعتموني أكرم آباءكم وأحترم أبناءكم. وهذا لا يقتضي أن يكرم آباء من توفي ابوه ويحترم ابن من لم يولد له ابن، ولكن مفهومه أنه يكرم آباء من له أب ويحترم ابن من له ابن. أو يقال: ما من مكلف إلا وله سيئة حتى الأنبياء، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين. وحين بين حسن التكاليف ووقوعها وذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها اشار بقوله: {ووصينا الإنسان} الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة ولا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، ومع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيره؟ ومنه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ومعنى {وصينا} أمرنا كما مر في قوله: {ووصى بها إبراهيم} [البقرة: 132] وقوله: {بوالديه} أي بتعهدهما ورعاية حقوقهما، وعلى هذا ينتصب {حسنًا} بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسنًا أو افعل بهما حسنًا كأنه قال: قلنا له ذلك وقلنا له {وإن جاهداك} إلى آخره فلو وقف على قوله: {بوالديه} حسن ويجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والديه حسنًا وقلنا له {وإن جاهداك} وقوله: {ما ليس لك به علم} كقوله: {ما لم ينزل به عليكم سلطانًا} [الأنعام: 81] أي لا معلوم ليتعلق العلم به. وإذا كان التقليد في الإيمان قبيحًا فكيف يكون حال التقليد في الكفر. وعلى وجوب ترك طاعة الوالدين إذا ارادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي، وذلك أن طاعتهما وجبت بأمر الله فإذا نفيا طاعة الله في الإشراك به فقد أبطلا طاعة الله مطلقًا، ويلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر الله، وكل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل. فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك بالله من الممتنعات. وفي قوله: {إليّ مرجعكم} ترغيب في رعاية حقوق الوالدين وترهيب عن عقوقهما وإن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك. وفيه أن المجازي للمؤمن والمشرك إذا كان هو الله وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما. وفي قوله: {فأنبئكم} دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شيء. يروى أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين اسلم قالت أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد. وكان أحب ولدها إليها فابى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدًا أن يداريها ويرضيها بالإحسان. ثم أكد جزاء من آمن وعمل صالحًا بتكرير قوله: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين} اي في زمرتهم {وحسن أولئك رفيقًا} [النساء: 69] قال الحكماء: أي في المجردين الذين لا كون لهم ولا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم. ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر والوفاق فقال: {ومن الناس من يقول آمنا بالله} يعني أنا والمؤمنون حقًا آمنا ادّعى أن إيمانه كإِيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله: {فإذا أوذي في الله} اي في سبيله ودينه {جعل فتنة الناس كعذاب الله} قال جار الله: أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وهذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفًا وهذا في الواقع. وقيل: جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله. وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذب الله الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر وقالوا: إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس، وذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار، وإن تركنا الإِيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل ونافقوا. وإنما قال: {فتنة الناس} ولم يقل عذاب الناس لأن فعل العبد ابتلاء من الله. وليس في الاية منع من إظهار كلمة الكفر إكراهًا، وإنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها.
ومما يؤكد تذبذبهم قوله: {ولئن جاء نصر من ربك} ويلزمه الغنيمة غالبًا {ليقولن إنا كنا معكم} يعني داب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر، وإن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر وأظهر المعية وادّعى التبعية.
وفي تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة والرحمة هي التي أوجبت النصر. ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم، لأنه خبير بما بأنفسهم كما هي وهم لا يعرفون نفوسهم كما هي، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى الله شيئًا لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله: {وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين} وفيه وعد للمؤمنين ووعيد للمنافقين. اعتبر أمر القلب هاهنا وهو في المؤمن التصديق، وفي المنافق النفاق، واعتبر في أول السورة أمر اللسان وهو في الكافر الكذب لأنه يقول: الله غير موجود، أو الله أكثر من واحد. وفي المؤمن الصدق لأنه يقول: الله واحد. وحين بين أحوال الفرق الثلاثة وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة، وبين أن عذاب الله فوقها وكان للكافر أن يقول للمؤمن لم تصبر في الذل على الإيذاء ولم لا تدفع الذل والعذاب عن نفسك بموافقتنا، وكان جواب المؤمن أن يقول خوفًا من عذاب الله خطيئة مذهبكم فقالوا: لا خطيئة فيه، وإن كان فيه خطيئة فعلينا، اشار إلى جميع ذلك قوله: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} أرادوا وليجتمع هذا الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا وأن نحمل خطاياكم، نظيره ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب ولكنه حكاية قول صناديد قريش. كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فإِن عسى كان جزاء ومعاد فإنا نتحمل عنكم الإثم. وترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول: افعل هذا وإثمه عليّ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان. ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئًا من خطاياهم، ولا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم الله عليهم بأنهم كاذبون. ويجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا وفي قلوبهم نية الخلف. ولا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف. أما الجمع بين قوله: {وما هم بحاملين} وبين قوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم} فهو أن النفي راجع إلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسببه، والإثبات يرجع إلى انهم يحملون وزر الإضلال ووزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما قال عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة فعليه ورزها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» قال: {وليسئلن} سؤال تقريع {يوم القيمة عما كانوا يفترون} من أنه لا حشر، وعلى تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين. ثم أجمل قصة نوح ومن بعده تصديقًا لقوله في أول السورة {ولقد فتنا الذين من قبلهم} وفيه تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام كأنه قيل له: إن نوحًا لبث الف سنة تقريبًا يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وفيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون؟
سؤال: ما الفائدة في قوله: {ألف سنة إلا خمسين عامًا} دون أن يقول: تسعمائة وخمسين. الجواب: لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز والتقريب. فإن من قال: عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريبًا لا تحقيقًا. فإذا قال: إلا شهرًا أو إلا سنة، زال ذلك الوهم. وأيضًا المقصود تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الألف الذي هو عقد معتبر أوصل إلى هذا الغرض. وإنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفًا لما في المستثنى منه تجنبًا من التكرار الخالي عن الفائدة وتوسعة في الكلام. قال بعض الأطباء: العمر الطبيعي للإِنسان مائة وعشرون سنة. فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه السلام وغيره، وذلك أن المفسرين قالوا: عمر نوح الفًا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب أنه عاش ألفًا واربعمائة سنة. ويمكن أن يقال: إنهم ارادوا بالطبيعي ما كان أكثريًا في أعصارهم. ولا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائدًا على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار والأدوار، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين» والطوفان ما عم كل المكان بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل. وفي قوله: {وهم ظالمون} دليل على أن العذاب أخذهم وهم مصرون على الظلم ولو كانوا قد تركوه لما أهلكهم. والضمير في قوله: {وجعلناها} إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة. وأعاجيب هذه القصة وأحوال السفينة وأهوالها قد تقدّمت مرارًا ولا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها. اهـ.